شبكة قدس الإخبارية - 12/2/2025 10:35:39 PM - GMT (+2 )
يبدو أن تطورات الأحداث في المسجد الأقصى تسير على نحو أكثر تسارعا مما توقعه الكثير من المحللين والمراقبين، فعلى غير المعهود من جماعات المعبد المتطرفة في هذه الفترة من العام، شهد يوم الثامن عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي محاولة ثمانية مستوطنين متطرفين من أتباع جماعات المعبد، الهجومَ على المسجد الأقصى المبارك عبر باب الأسباط بصحبة قربان حيواني (ماعز صغير) وعدد من الطيور، في بأسلوب يشبه الهجوم المنسق الذي قامت به مجموعة مشابهة في شهر مايو/أيار الماضي، وانتشرت فيديوهات توثق هذه الحادثة بثها أفراد هذه الجماعة أنفسهم الذين كانوا يحملون هواتفهم ويصورون الواقعة، حيث تظاهروا بإقامة صلوات خارج باب الأسباط، ثم غافلوا الحراس واقتحموا المسجد عنوة راكضين في عدة اتجاهات متباعدة عن بعضها لتشتيت انتباه حراس المسجد الأقصى أثناء مطاردتهم، بينما كان أحدهم يحمل القرابين لإيصالها لموقع ذبحها بأسرع وقت؛ أملا في تنفيذ طقس الذبح.
ووصلت المجموعة بالفعل خلال المطاردة إلى المنطقة الملاصقة لباب الرحمة في الجهة الشمالية الشرقية من المسجد، على بعد حوالي 120 مترا من باب الأسباط، قبل أن يقبض عليهم حراس المسجد الأقصى، ثم تأخذهم شرطة الاحتلال خارج المسجد، وتطلق سراحهم لاحقا.
هذه المحاولة لم تكن الأولى هذا العام، فقد حاول أفراد هذه الجماعات إدخال القرابين إلى المسجد الأقصى عدة مرات خلال عيد الفِصح العبري في أبريل/نيسان الماضي، وحاولوا ذلك مرتين في غير عيد الفِصح، ولكن الجديد أن هذه المحاولة هي المحاولة الثالثة التي ينجح فيها المستوطنون بالفعل في إدخال القربان إلى داخل حدود المسجد الأقصى، ولكنهم فشلوا في ذبحه وإراقة دمه على أرض المسجد، كما تقتضي طقوسهم..
المرة الأولى كانت خلال مناسبة دينية تعرف باسم "الفصح الثاني" في الثاني عشر من مايو/أيار الماضي، حيث حاولت مجموعة مكونة من خمسة مستوطنين الهجوم معا على باب الغوانمة في الزاوية الشمالية الغربية للأقصى؛ بهدف تشتيت الحراس، بينما نجح أحدهم في إدخال القربان الحي إلى داخل حدود المسجد قبل أن يهاجمه الحراس ويقبضوا عليه.
أما المحاولة الثانية فكانت خلال الاحتفال بما يسمى "عيد نزول التوراة / الأسابيع" في الثاني من يونيو/حزيران الماضي، حين تمكن أحد المستوطنين من الوصول إلى ساحة قبة الصخرة قرب قبة السلسلة بصحبة كيس يحتوي لحوم ودماء قربان مذبوح؛ بهدف سكب هذه المكونات تحت قبة السلسلة التي يدعي هؤلاء أنها موقع مذبح المعبد المزعوم.
وبالتالي، فإن الهجوم الأخير هذا الشهر شكلَ المحاولة الثالثة التي ينجح فيها هؤلاء بإدخال القربان إلى داخل ساحات المسجد الأقصى، ويفشلون في ذبحها وسكب دمائها فوق أرض المسجد.
لكن الجديد هذه المرة أن هذه المحاولة لم تجرِ خلال أي موسم ديني يهودي، وإنما في يوم عادي ليس ذا أهمية تذكر في التقويم العبري، وليس فيه أي ذكرى معينة لأي طائفة من الطوائف اليهودية مطلقا.
فالمحاولة كانت بغير مقدّمات ولا مبررات دينية، وهنا تنبع خطورتها، إذ كانت هذه المجموعة على ما يبدو تعوِل على أن المسلمين لن يكونوا على أهبة الاستعداد للتصدي لأي محاولات من هذا القبيل؛ نظرا لعدم وجود مناسبة دينية يهودية من التي يحاول المستوطنون استغلالها لتنفيذ قرابينهم داخل المسجد الأقصى.
هذا الأمر ينقل المعركة الجارية على المسجد الأقصى إلى بُعد ومستوى جديد، ففي السابق كانت الاستعدادات للتصدي لأي اعتداءات من نوع خاص ترتفع مع اقتراب أو حلول أي مناسبة أو ذكرى معينة ذات طابع ديني لدى جماعات المعبد المتطرفة وتيار الصهيونية الدينية، وبذلك كان حراس المسجد الأقصى يرفعون مستوى تأهبهم ومراقبتهم الأوضاع داخل المسجد وسلوك أفراد هذه الجماعات حول المسجد.
أما وقد تمت هذه المحاولة في يوم طبيعي- إن صح التعبير- فإن هذا يعني أن أفراد هذه الجماعات تجاوزوا حدود التزاماتهم بتأدية الطقوس الدينية في مواعيدها المحددة في التقويم العبري ليعمموها على السنة كلها، وليصبح كل يوم من أيام السنة يوما خاصا لديهم يمكنهم من خلاله أن يحاولوا تأدية طقوسهم بكافة أنواعها؛ بهدف تكريس المسجد الأقصى معبدا معنويا حقيقيا.
تحركات سياسية وأمنية موازية بقيادة بن غفير لتغيير الوضع القائمهذه العملية تأتي متزامنة مع أنباء أخرى من دوائر صناعة القرار الإسرائيلية تفيد بتوقيع وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير على قرار تعيين صديقه المقرب "أبشالوم بيليد"، الذي كان يشغل منصب نائب مفوض الشرطة، قائدا لشرطة الاحتلال في منطقة القدس، خلفا للقائد الحالي "أمير أرزاني" الذي تمت إزاحته بضغوط من بن غفير، حيث أخرجه عمليا من سلك الشرطة في إجازة مدتها عام واحد.
وهذه الخطوة تنظر لها وسائل الإعلام الإسرائيلية على أنها تهدف فعليا لدعم رؤية بن غفير بتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى تماما، والاستعداد لتنفيذ هذه الرؤية خلال شهر رمضان القادم.
بيليد هذا شخصية معروفة بميولها الدينية المتطرفة، وهو أحد أبناء تيار الصهيونية الدينية المخلصين وصديق مقرب من بن غفير، وكان بن غفير قد حاول العام الماضي تعيينه في منصب مفوض عام الشرطة خلفا لمفوض الشرطة السابق "كوبي شبتاي"، لكنه فشل في مساعيه بعد أن أثار هذا التعيين عاصفة من الانتقادات كان أحد أسبابها ادعاء بن غفير أن صديقه أبشالوم بيليد تخرج في جامعة فرجينيا بالولايات المتحدة، الأمر الذي تبين أنه لم يكن صحيحا، وأدى لاحقا إلى إحباط مساعي تعيينه لصالح المفوض الحالي "دانييل ليفي".
ليعود لنا الآن بن غفير ويوقع على تعيين هذا الشخص قائدا لشرطة القدس، أحد أخطر الأجهزة في شرطة الاحتلال، باعتبارها المسؤول المباشر عن الأمن في القدس، وفي المسجد الأقصى المبارك بالذات.
بتحليل هذه الخطوة، يتضح لنا أن هناك تنسيقا يجري بين أفراد وقيادات تيار الصهيونية الدينية فيما يتعلق بتحقيق اختراق كامل للوضع القائم في المسجد الأقصى، ويبدو أن الحراك الأخير الذي يقوم به أفراد جماعات المعبد المتطرفة التابعة لهذا التيار، يتساوق مع أهداف التيار العامة بتصعيد الأوضاع داخل المسجد الأقصى وتسخينها في الفترة التي تسبق شهر رمضان، وصولا للمرحلة الحاسمة خلال أو بعد رمضان مباشرة.
إذ يبدو من تحليل هذا السلوك أن تيار الصهيونية الدينية قد قرر بالفعل تحديد شهر رمضان القادم موعدا لتنفيذ خطوة جدية وكاملة لتكريس السيطرة الإسرائيلية الكاملة على المسجد الأقصى.
بن غفير لا يخفي رؤيته هذه، بل يعلن في كل مناسبة أنه يرى ضرورة فتح المسجد الأقصى على مصراعيه للمستوطنين اليهود لأداء صلواتهم وطقوسهم الدينية داخله دون التقيد بأعداد أو ساعات محددة.
وهو يرى ما تراه هذه الجماعات تماما من حيث ضرورة فتح كافة البوابات لدخول المستوطنين بحرية، في مقابل تقييد الوجود الإسلامي في المسجد، وقصر دور دائرة الأوقاف الإسلامية على إدارة الوجود الإسلامي فقط داخل المسجد.
وأظن أن دوائر صناعة القرار في تيار الصهيونية الدينية المسيطر حاليا على حكومة نتنياهو باتت ترى أن الشهور القليلة القادمة هي الموعد الذهبي لتنفيذ هذه الرؤية، ولعلها لأجل ذلك أوعزت لأفرادها على الأرض بتسخين الأوضاع في المسجد، ولمناصريها في الكونغرس الأميركي، وتحديدا عضوي الكونغرس الجمهوريين كلوديا تيني وكلاي هيجينز، بتقديم مقترح قانون الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية الكاملة على المسجد الأقصى لإقراره في الكونغرس، بحيث يكون داعما لأي قرارات مصيرية تتعلق بالمسجد قد تتخذها حكومة الاحتلال.
وقد تم بالفعل تقديم مقترح القانون ونشره في موقع الكونغرس الرسمي على الإنترنت، وهو ينص في مادته الأولى على "تأكيد الحق غير القابل للتصرف للشعب اليهودي في الوصول الكامل إلى جبل المعبد، وحقه في الصلاة وأداء الشعائر الدينية فيه".
خطة منسقة لتكريس السيطرة على الأقصى وتهديد هويته الدينيةأمام هذه الحقائق فإنه لا بد من الإعلان بصراحة ووضوح أننا الآن أمام عملية منسقة حقيقية تتم بين مثلث تل أبيب ومستوطنات الضفة الغربية وواشنطن، هدفها إجراء تغيير جذري في هوية المسجد الأقصى المبارك، وتحويله إلى موقع ديني يهودي بالدرجة الأولى، يُسمَح للمسلمين في المرحلة الأولى بالوصول إليه مبدئيا إلى أن تنضج الظروف المواتية لمنع المسلمين من الوصول إليه، تماما، كما حدث للمسجد الإبراهيمي في الخليل، الذي أعلنت إسرائيل مؤخرا سحب صلاحية إدارته من وزارة الأوقاف الفلسطينية، وتسليمها للمجلس الديني لمستوطنة كريات أربع.
إن مسؤولية حماية المسجد الأقصى من مثل هذا المصير تقع أولا على عاتق الشعب الفلسطيني في القدس، الذي يجب عليه أن يتجاوز صدمة الترويع التي أحدثها الاحتلال خلال حرب الإبادة على قطاع غزة، وأن يقول كلمته بوضوح ودون انتظار ردود فعل رسمية عربية أو إسلامية أو دولية، فالمسجد الأقصى ليس اليوم بعيدا عن أطماع تيار الصهيونية الدينية الذي يظن أنه في موقع قوة يسمح له بفرض رؤيته الدينية دون أي اعتبار لوجود شعب فلسطيني حول المسجد الأقصى أساسا، ناهيك عن عدم اعترافه بالسيادة الإسلامية على المسجد من الأصل.
فتح العيون يوميا وعلى مدار الساعة على كل ما يدور حول المسجد الأقصى المبارك- وليس داخله فقط – أصبح واجب الوقت؛ لا على حراس المسجد الأقصى وحدهم، وإنما على جميع أبناء الشعب الفلسطيني في القدس، فالموضوع لا يتعلق ببضعة مستوطنين مهووسين دينيا يريدون ذبح ماعز على أرض المسجد، وإنما يتعلق بهوية المسجد نفسه وأصل وجوده.
وقد بات تغييرُ هذه الهوية اليوم مشروعا تعمل عليه دولٌ وحكوماتٌ لا مجرد أفراد، والأجيال القادمة لن ترحم من يتقاعس عن حماية هذا المكان المقدس بأي ثمن.
إقرأ المزيد


