تجويع وتعذيب الأسرى وقتلهم: سياسة وهدف من أهداف حرب الإبادة
وكالة سوا الاخبارية -
2025/12/04

منذ الأيام الأولى للحرب على قطاع غزة ، بدا أن إسرائيل لا تتعامل مع تجويع الفلسطينيين وتعذيبهم داخل السجون باعتبارهما نتائج فوضى الميدان أو ارتدادات مكانية لما تسميه “ضرورات أمنية”، بل باعتبارهما جزءاً عضوياً من عقيدتها الاستعمارية الممتدة منذ النكبة : إضعاف الفلسطيني، تجريده من إنسانيته، وتحويل الجسد إلى ساحة قمع هدفها كسر الإرادة وكيّ الوعي وفرض حالة مستمرة وأداة من أدوات السيطرة والخضوع. هذه السياسة التي تجد جذورها في السنوات الأولى للاحتلال، تتكرس اليوم بوحشية غير مسبوقة داخل السجون، حيث يتعرض آلاف الأسرى لعمليات تجويع ممنهج وتعذيب متواصل وقتل بطيء، يندرج جميعه ضمن منطق الإبادة الذي يدير الحرب في غزة وما حولها.

فالسجون الإسرائيلية لم تكن يوماً مؤسسات عقابية تقليدية، بل أداة مركزية في هندسة السيطرة على الفلسطينيين، تُستخدم لضبط المجتمع وإخضاعه، وتأسيس معادلة تقوم على الردع والخوف، بحيث يتحول الاعتقال ذاته إلى عملية مسح للهوية ومحاولة اقتلاع للانتماء الوطني. لذلك لم يكن غريباً أن يتحول الأسرى منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول إلى هدف مباشر للانتقام، فتُفصل لهم سياسة طعام تقوم على التجويع المتعمد، ويُتركون في زنازين لا تصلح للعيش، ويُجبر مئات منهم على النوم على الأرض في منظومة لا ترى في الفلسطيني سوى رقم يجب أن يُكسر حتى يتوقف عن الحلم.

التقرير الأخير الصادر عن هيئة الدفاع العام الإسرائيلية، جزء من مؤسسة القضاء، كشف عن أوضاع صادمة للأسرى: جوع حاد وفقدان كبير للوزن، ظروف احتجاز “لا تصلح للمعيشة”، اكتظاظ خانق يصل فيه المساحة المخصصة للأسير الأمني إلى أقل من ثلاثة أمتار مربعة، نوم آلاف دون سرير، حرمان شبه كامل من المقتنيات الشخصية، قيود على الماء، غياب الإضاءة والتهوية، وحبس 23 ساعة يومياً داخل زنازين مغلقة. كما وثّق التقرير عنفاً ممنهجاً من جانب الحراس خلال التفتيشات والنقل، واحتجاز مئات المعتقلين في محطات الشرطة في ظروف تهدد الحياة، وهو ما يوضح أن ما يجري داخل السجون ليس مجرد تجاوزات أمنية، بل سياسة متكاملة من التجويع والتعذيب والحرمان والقتل البطيء.

وفي جوهرها، تكشف هذه الممارسات عن علاقة الاحتلال التاريخية بالسجن باعتباره مختبراً لسياسات القمع، وامتداداً عضوياً لمنطق الاستعمار الذي لا يفصل بين الأرض والجسد: من يسيطر على الجسد يسيطر على الروح، ومن يكسر الأسير يظن أنه يكسر الشعب. وهكذا يصبح تجويع الأسرى امتداداً لتجويع غزة، وحرمانهم من الضوء جزءاً من العتمة الأكبر التي تُفرض على الفلسطيني في حياته اليومية.

في التحليل النهائي، تبدو سياسة الاعتقال الإسرائيلية، بمعزل عن أي غلاف قانوني أو رواية أمنية، جزءاً من بنية استراتيجية تهدف إلى إعادة إنتاج الفلسطيني بوصفه “جسداً يمكن التحكم فيه”، وإعادة صياغة المجتمع تحت ضغط الخوف والموت البطيء. إن تجويع الأسرى وتعذيبهم وقتلهم داخل السجون ليس مجرد تجاوز لحقوق الإنسان، بل هو امتداد مباشر لمفهوم الإبادة التي تُدار اليوم ضد غزة، والتي لا تُقاس فقط بعدد الضحايا بل بعمق الهجوم على شروط الحياة نفسها. فالدولة التي تشرعن حرمان الأسير من الطعام، وتجعله ينام على الأرض، وتتركه فريسة للمرض والعتمة والعنف، إنما تعلن صراحة أن مشروعها يتجاوز السيطرة إلى محو الوجود الفلسطيني بما هو وجود سياسي وإنساني. ومع كل ما كشفه التقرير الأخير، فإن إسرائيل تجد نفسها مرة أخرى أمام الحقيقة التي تلاحقها منذ عقود: رغم التجويع والقتل، لم تنجح في كسر الفلسطيني، ولا في تحويل السجن إلى مقبرة للوعي. بل على العكس، كلما اشتدت أدوات القمع، تعاظمت قدرة الفلسطيني على فضح البنية الإجرامية التي تحكم واقعه، وتثبيت أن الإبادة في الشارع أو داخل الزنازين، لن تُصبح “سياسة طبيعية” مهما طال الزمن أو تعزز  الصمت الدولي.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية



إقرأ المزيد