حلّ الدولتين وهم وحلّ الدولة الواحدة خيال... ماذا بعد؟
شبكة راية الإعلامية -

الكاتب: هاني المصري

يوصَف حلّ الدولتين اليوم بأنه وهمٌ غير قابل للتحقق، وحلّ الدولة الواحدة يُنعت بالخيال. فما الذي يبقى بعد نسف الخيارين معًا؟ ... يرى رافضو حلّ الدولتين أن الواقع الذي فرضه الاحتلال، خصوصاً استيطان أكثر من مليون مستوطن في الضفة الغربية وتغلغلهم في مراكز القرار الإسرائيلي، يجعل إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود 1967 أمراً مستحيلاً. فإزالة المستوطنات والمستوطنين تُعدّ، وفق هذا الرأي، تهديداً وجوديّاً لإسرائيل، وقد تؤدّي إلى حربٍ أهلية داخلها.

في المقابل، يعتبر رافضو حلّ الدولة الواحدة أنها خيالية وغير قابلة للتحقق؛ إذ تعني دولة ديمقراطية واحدة عمليّاً إنهاء الطابع اليهودي للدولة، لأنها سرعان ما يكون فيها أغلبية فلسطينية، وهو ما ترفضه اغلبية ساحقة داخل إسرائيل، وبمستوى أعلى من رفضها الدولة الفلسطينية نفسها.
ورغم اختلاف المنطلقات، يشترك الطرفان في الخضوع للواقع، وافتراض أنه غير قابل للتغيير، وبالتالي، الامتناع عن طرح بديل عملي قابل للتحقق. كأنّ لسان حالهم يقول: "لا شيء يمكن فعله"، فيتوزّعون بين من يقبل بأي شيء ومن يرفض كل شيء انتظاراً للمجهول، وبعضهم يطرح خطاب الحقوق، ناسياً أن طرحه وحده يتجاهل الطابع الاستعماري الاستيطاني العنصري للحركة الصهيونية، ويطمس الطابع التحرّري للقضية الفلسطينية، ومتجاهلا أن الشعب الفلسطيني ثابتٌ على أرضه، ومصمّم على نضاله، وأن وجود أكثر من خمسة ملايين فلسطيني، معظمهم في الضفة الغربية مقابل مليون مستوطن، إضافة إلى الاعتراف الدولي الواسع بالدولة الفلسطينية (160 دولة بينها أربع دول من أصحاب الفيتو)، يجعل معركة التحرّر والاستقلال الوطني معركة تستحق الخوض، صحيح انها صعبة لكنها ليست مستحيلة. وإن لم تنجح، فالباب يبقى مفتوحاً لاعتماد بدائل أخرى، بما فيها حل الدولة الواحدة.

يتطلب تغيير المعادلة إرغام إسرائيل، بعد تغيير موازين القوى، على الاختيار بين استمرار الاحتلال أو البقاء دولة يهودية

أما رافضو الدولة الفلسطينية فيروْن، ولهم حجج معتبرة، ولكنها لا تكفي لرفضه، أن حلّ الدولتين أصبح مشروعاً تصفوياً، كون الدولة ستقام على 22% فقط من فلسطين التاريخية والتنازل عن البقية من الأرض والحقوق، وهو تنازلٌ كبيرٌ عن الحقوق الوطنية والتاريخية والقانونية والسياسية. ويرون أن هذا النهج الذي قدّم تنازلات كبيرة مقابل تنازلاتٍ إسرائيلية محدودة جرى التراجع عن معظمها، شجّع إسرائيل على الاستمرار في عدم الاعتراف بالشعب الفلسطيني وحقوقه والمطالبة بمزيد من التنازلات، حتى أصبح حلّ الدولتين يُطرح بصيغة "الحد الأقصى" بعد قبول إقامة الدولة في حدود 1967، والموافقة على مبدأ تبادل الأراضي وضمّ الكتل الاستيطانية وقبول دولة منزوعة السلاح ذات سيادة منقوصة كتنازلات مجانية مقدما وبدون مقابل إسرائيلي.
وتحوّل الأمر عمليّاً إلى اعتبار بقاء سلطة الحكم الذاتي المحدود كبرنامج فعلي للقيادة، خصوصاً بعد قبول تنفيذ التزامات أوسلو من طرف واحد، وتكريس سقف “الأمن والاقتصاد” سقفاً أعلى للعلاقات الفلسطينية الإسرائيلية من دون تفاوض ولا عملية سياسية منذ 2014. بل باتت المشاركة السياسية في النظام الفلسطيني أخيراً مشروطة بالالتزام ببرنامج المنظّمة والتزاماتها، وهو ما يفرغ التعدّدية والديمقراطية من مضمونها التنافسي، ويُعمّق الارتهان للواقع القائم، ويمثّل استمراراً للتخلي عن الرواية التاريخية الفلسطينية، لصالح الاقتراب من الاستجابة لمطالب الاعتراف بإسرائيل دولةً للشعب اليهودي، بما يمسّ وحدة الشعب والأرض والقضية.
على الجانب الآخر، يعتبر رافضو الدولة الواحدة التمسّك بخيار التحرير الكامل أو بدولة واحدة بعد تفكيك المشروع الصهيوني أو بدونه من أشكال القفز فوق ميزان القوى واختيار "المستحيل"، بما يؤدّي إلى شطب الممكن المتاح. ويرون أن التخلي عن هدف إنهاء الاحتلال لصالح خطابٍ يتجاوز الواقع يفتح الباب أمام تصفية أو بالحد الأدنى إعادة القضية الفلسطينية إلى مرحلة الوصاية والاحتواء السابقة لاعتراف العالم بمنظّمة التحرير ممثلاً شرعيّاً وحيداً للشعب الفلسطيني.
بالعودة إلى التاريخ، انطلق البرنامج الوطني الفلسطيني بعد النكبة من هدف التحرير الكامل والعودة، ثم انتقل تدريجيّاً بعد 1967 وحرب تشرين (1973) ودخول مسار التسوية إلى التركيز على إقامة الدولة على أراضي 1967. ولو لم يحدث هذا التحوّل بعد تغير الموقف الرسمي العربي من التحرير الكامل وشعار "ما أخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوة" إلى "إزالة آثار العدوان"، والبحث عن تسوية عن طريق المفاوضات، لخرجت المنظّمة من المعادلة السياسية الدولية والعربية. لكن الإشكال لم يكن في تبنّي برنامج تقرير المصير والعودة والدولة، بل في تحويله إلى سقف نهائي، بدل كونه برنامجاً مرحليّاً، وفي تقديم تنازلات واسعة مجانية مسبقة من دون الحصول على الدولة، بل على حكم ذاتي محدود مكبّل باتفاق أوسلو والتزاماته المجحفة.
كان يمكن لهذا البرنامج أن يكون مرحليّاً، لو ارتبط بإنهاء الاحتلال وتحقيق الاستقلال مع الاستمرار في الكفاح لتحقيق الأهداف الاستراتيجية، وليس التخلي عن المقاومة ومختلف أشكال العمل السياسي المرتبط بها قبل تحقيق غاياتها، عبر الكفاح والعمل السياسي والميداني لتغيير موازين القوى وتعديل الحقائق المفروضة على الأرض.
ما المطلوب الآن؟... هل نعود إلى شعارات الماضي وندعو إلى التحرير الكامل، رغم تغيّر الظروف العربية والدولية والفلسطينية، إلى درجة أن المطروح الآن البحث عن مسار سياسي "قد" يؤدّي إلى دولة، وفرض وصاية استعمارية على قطاع غزّة تستثني المنظّمة والفصائل الفلسطينية، وتجد هيئة فلسطينية خاضعة لمجلس السلام الاستعماري في القطاع، وتقويض السلطة في الضفة الغربية والعمل لإعادة تأهيلها لتتحول من سلطة متعاونة مع الاحتلال إلى سلطة أو سلطات عميلة، وجعل الخيارات الفلسطينية تتراوح ما بين الإبادة الجماعية والفصل العنصري والضم والتهجير، ما يؤدّي إلى أن أقل السيناريوهات سوءاً أن نصل إلى "أوسلو" جديد زائد أو ناقص. وهنا لا ينفع الرهان على ما ليس بيدنا الرهان عليه، أي على الغيب وتوقعات زوال إسرائيل التي لا يمكن أن تؤخذ بالحسبان، وتتجاهل أن دولة الاحتلال جزءٌ من معسكر استعماري عالمي، لن يتخلى عنها بسرعة وسهولة إلا عندما يتواصل تراجعه، ويصل إلى مستويات متقدّمة؟ وهذا يتساوق معه الاستمرار في نهج "ليس بالإمكان أبدع مما كان" لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ أم نتبنّى مقاربة جديدة وطنية ديمقراطية تجمع بين الواقعية والطموح والكفاح، بعيدا عن الخضوع للواقع وعن القفز المغامر عنه.

يعتبر رافضو الدولة الواحدة التمسّك بخيار التحرير الكامل أو بدولة واحدة من أشكال القفز فوق ميزان القوى واختيار المستحيل

المطلوب تبني مشروع وطني جديد يستند إلى ثلاث ركائز: أولوية الصمود: تعزيز بقاء الشعب الفلسطيني على أرضه وقضيته حية، والحفاظ على ما تبقى من مكتسباته، وإفشال المخططات الإسرائيلية الساعية إلى الحسم النهائي للصراع عبر الضمّ والتهجير والفصل العنصري والإبادة. الهدف الوطني المركزي لهذه المرحلة: إنهاء الاحتلال وإنجاز الاستقلال على طريق تحقيق باقي الأهداف، بما فيها حقّ العودة والمساواة الكاملة لفلسطينيي الداخل. وحدة القضية والشعب والأرض: لا يمكن حلّ القضية الفلسطينية ولا تقزيمها بدولة على حدود 1967 فقط، بل قضية تحرّر وطني لشعبٍ بأكمله، وحلّها يتطلب ضمان حقه في تقرير مصيره بجميع مكوّناته، وبما يحقق وحدة القضية والشعب والأرض.
إذا كانت السياسة فن تحقيق أفضل الممكنات، وليست فن الممكن فقط، من دون التخلي عن الحقوق والأهداف الكبرى والمبادئ، وبما أن الدولة الواحدة العنصرية الاستيطانية قائمة، وتستكمل مقومات وجودها من خلال السعي إلى تحقيق أكبر مساحة من الأرض بأقل عدد ممكن من السكان، فإن الهدف المباشر اليوم هو الصمود والنضال لإنهاء الاحتلال وتجسيد الاستقلال، لأن مصير الضفة الغربية وقطاع غزّة هو ما يحاول الكيان الإسرائيلي حسمه، على طريق الوصول إلى الحلّ الديمقراطي التاريخي والجذري.
قد يكون الطريق صعباً، وهو كذلك، لكنه ممكنٌ في ظل الأزمات التي تواجه دولة الاحتلال والانتفاضة العالمية المتنامية من أجل الحرية والعدالة لفلسطين، وسير المنطقة والعالم نحو عالم جديد، وهو يختلف جوهريّاً عن تصور حلّ الدولتين الذي اعتمد على المفاوضات والتنازلات وإثبات الجدارة أمام طرفٍ لا يعترف أصلاً بأي حل وسط. إن تغيير المعادلة يتطلب إرغام إسرائيل بعد تغيير موازين القوى على الاختيار بين استمرار الاحتلال أو البقاء دولة يهودية، وهذا ما لا يمكن تحقيقه إلا عبر نضالٍ طويل متعدّد الأشكال، تنسجم فيه أشكال النضال مع الاهداف، ومع خصائص الصراع وطبيعته، ومع الجمع ما بين الحق بالمقاومة وجدواها وضمان سيرها على طريق تحقيق أهدافها، في ظل صمودٍ عنيد، وبرنامج وطني واضح وموحّد وجبهة وطنية عريضة تضم مختلف الأفراد والقوى التي تجمعها الأهداف والأسس الوطنية والديمقراطية المشتركة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.



إقرأ المزيد