شبكة راية الإعلامية - 12/9/2025 8:27:22 PM - GMT (+2 )
الكاتب: د. محمد عودة
محاولات القوى الكبرى للسيطرة على طرق التجارة العالمية، اعادت طرق التجارة القديمة إلى الواجهة كركائز لصراعات تحدد مسارات النفوذ العالمي، ويتجلى ذلك في مشروعين متنافسين، طريق الحزام الصيني الذي يستعيد روح طريق الحرير، وطريق التوابل الأميركي الهندي الأوروبي الذي أُعلن عنه في سبتمبر 2023 كرد مباشر على المشروع الصيني.
في عام 2013أعادت الصين إحياء طريق الحرير عبر مشروع "الحزام والطريق"، بمسار بري يربط شرق الصين بآسيا الوسطى وروسيا والقوقاز وصولًا إلى أوروبا، ومسار بحري يبدأ من الموانئ الصينية مرورًا بملقا (Malacca Strait) والمحيط الهندي وسريلانكا وجيبوتي والبحر الأحمر وقناة السويس وصولًا إلى المتوسط. هذا المسار البحري يمثل الشريان الاستراتيجي للمشروع، وأي تهديد له ينعكس مباشرة على نفوذ بكين في آسيا وأفريقيا وأوروبا.
وعلى الجانب الآخر، لم تكتفِ الولايات المتحدة بالمراقبة، بل مارست ضغوطًا مباشرة على الدول المشاركة في الحزام والطريق، ما أدى إلى انسحاب عدد منها من المشروع ومراجعة عدة دول أخرى لمساهماتها، مثل إيطاليا والفلبين.
الضغط الأميركي لم ينهي المشروع الصيني، مما دفع الولايات المتحدة الى تجييش عدد من الدول لمهاجمة اليمن ومنعه من السيطرة على باب المندب، ولان الضغط والحرب لم يؤديا الى النتيجة المرجوة عمدت الولايات المتحدة في قمة العشرين التي عقدت في نيودلهي الى الإعلان عن طريق بديل أسمته "طريق التوابل" ليقدم مسارًا بديلاً يربط الهند بالخليج وإسرائيل وأوروبا، ويقلل من الاعتماد على قناة السويس، ويوفر لواشنطن والهند منصة مشتركة لإعادة تشكيل التوازن الجيو–اقتصادي في غرب آسيا.
تُبرز هذه التحركات أهمية البحر الأحمر وباب المندب وقناة السويس باعتبارها عقدًا لا يمكن تجاوزها بسهولة، فبينما تعتمد الصين عليها كمسار رئيسي، تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها لتطوير بدائل تقلل من قدرة بكين على التحكم بحركة البضائع العالمية، بما في ذلك طرح مشاريع مثل قناة بن غوريون كمسار موازٍ جاهز للاستثمار في حال تغيّرت الظروف الجيوسياسية.
وفي خلفية هذا المشهد المعقد، تتداخل الحروب والأزمات المحلية مع الصراع الأكبر على طرق التجارة. فالهجمات في البحر الأحمر، والعدوان على غزة، وتوترات جنوب لبنان بعد مرور أكثر من عام على وقف إطلاق النار، وحتى الحرب في أوكرانيا، ليست معزولة عن هذه اللعبة الكبرى؛ كلها أدوات لإعادة ترسيم مسارات النفوذ ومنع الخصوم من تثبيت أقدامهم على الشرايين الاستراتيجية للعالم.
ولا يقتصر التنافس على الشرق الأوسط الذي يعد إضافة الى موقعه الاستراتيجي من اهم منتجي النفط والغاز، إذ تمتد آثاره إلى أمريكا اللاتينية التي أصبحت جزءًا من معادلة النفوذ العالمي. فالصين عززت حضورها في الموانئ والطاقة والبنية التحتية، فيما تمارس واشنطن ضغوطًا مضادة لضمان عدم تحول القارة إلى امتداد غربي لطريق الحرير. وهكذا تجد دول المنطقة نفسها في معادلة حساسة تتطلب موازنة دقيقة بين العملاقين.
ومن هذه الجبهة إلى جبهة أخرى، يبرز المحيط الأطلسي كمجال صراع متصاعد. ففي الوقت الذي كان يعتبر المجال الحيوي الغربي التقليدي، بدأت بكين تتوسع في موانئ غرب أفريقيا وشمالها، وفي مشاريع لوجستية تمتد حتى البرازيل. أما الولايات المتحدة، فتعيد تثبيت وجودها العسكري والتجاري في الساحل الغربي لأفريقيا وتضغط لتقييد أي حضور صيني استراتيجي. وبذلك يتحول الأطلسي من منطقة نفوذ مستقرة إلى ساحة تنافس حاد، تُعاد عبرها صياغة خطوط الاتصال بين أفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية.
ولا يقلّ الصراع على الموارد أهمية عن الصراع على الممرات؛ فالبترول والفحم الفنزويلي، والمعادن النادرة في أفريقيا وأوكرانيا، والمياه، جميعها عناصر تتحول إلى أدوات قوة في يد الدول الكبرى، الصين تبحث عن تأمين احتياجات صناعتها وتكنولوجيتها، فيما تسعى الولايات المتحدة لمنع بكين من الهيمنة على هذه الإمدادات أو التحكم بمسارات وصولها.
وهكذا تتجمع خيوط الصراع على مستويات متعددة، الموانئ، الطرق البحرية، الممرات البرية، الموارد الطبيعية، والتحالفات العسكرية، كلها تتشابك لتعيد رسم ملامح العالم المستقبلي بطريقة تذكرنا بما كان عليه صراع الإمبراطوريات، لكن بأدوات القرن الحادي والعشرين.
إن الصراع بين الحرير والتوابل لم يعد مجرد تنافس اقتصادي بين طريقين، بل معركة على من يملك القدرة على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للعالم، فالقوة في هذا العصر لا تُقاس بما تنتجه الدول فقط، بل بما تسيطر عليه من ممرات وبما تملكه من قدرة على تعطيل طرق الآخرين. وبينما تمد الصين شبكاتها من آسيا إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية، تعمل الولايات المتحدة على بناء بدائل تمنع ولادة عالم متعدد الأقطاب. وفي ظل هذا الاشتباك الطويل، يبدو أن المستقبل لن يُحسم لصالح من يملك الثروة أو القوة العسكرية وحدها، بل لمن يستطيع الإمساك بالشرايين التي يتنفس عبرها العالم. كل طريق يُفتح أو يُغلق، كل ميناء يُسلم أو يُحاصر، كل مورد يُؤمَّن أو يُمنع، هو خطوة في رسم نظام عالمي جديد ما زال في طور التشكل.
هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
إقرأ المزيد


