يوم جديد... الصين وفلسطين: استراتيجية لإعادة تموضع الدبلوماسية
شبكة راية الإعلامية -

الكاتب: د. دلال صائب عريقات

لم يعد ما يجري في الشرق الأوسط محصورًا في دائرة التصعيد العسكري أو التهديدات النووية المتبادلة، بل بات يعكس تحوّلًا بنيويًا في طبيعة الصراع على النفوذ والسيادة. فالحروب اليوم لا تُخاض فقط بالسلاح، بل تُدار عبر التحكم بالطرق التجارية، وممرات الطاقة، وسلاسل الإمداد العالمية، حيث تُستخدم المخاطر الأمنية كذرائع لإعادة رسم خرائط النفوذ الإقليمي والدولي.

في هذا السياق، تبرز الصين كقوة صاعدة تعيد هندسة النظام العالمي بهدوء استراتيجي، مستندة إلى أدوات التنمية، والاستثمار، وبناء الشراكات الاقتصادية، لا إلى منطق القوة الصلبة. ويحتل الشرق الأوسط موقعًا محوريًا في الرؤية الصينية، بوصفه نقطة تقاطع جغرافية بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، وممرًا حيويًا للتجارة والطاقة، ما يجعل استقراره شرطًا أساسيًا لنجاح مبادرة "الحزام والطريق".

غير أنّ إعادة تشكيل الجغرافيا الاقتصادية للمنطقة لا تتم بمعزل عن الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، بل تتقاطع معه بصورة مباشرة. فإسرائيل لا تسعى فقط إلى ترسيخ تفوقها العسكري، بل تعمل على توسيع نفوذها عبر السيطرة على خطوط النقل والتجارة والطاقة، لتتحول إلى مركز لوجستي إقليمي يتجاوز حدودها السياسية المعترف بها دوليًا. هذا التحول يعيد تعريف مفهوم السيادة في المنطقة، ويقلّص فعليًا من سيادة دول الجوار، حتى وإن بقيت حدودها الرسمية قائمة.

يتزامن هذا المشهد مع صعود تحالف "بريكس" وتوسّع حضوره في الشرق الأوسط، بما يعكس بداية انتقال النظام الدولي من الأحادية القطبية إلى تعددية أكثر توازنًا. وقد عبّرت دول "بريكس" بوضوح عن موقفها الداعم للحقوق الفلسطينية، من خلال التأكيد على حل الدولتين، ورفض الاستيطان، ودعم الشرعية الدولية ووكالة الأونروا. هذا التحول يفتح أمام فلسطين نافذة استراتيجية لإعادة تموضع دبلوماسي أكثر فاعلية في النظام العالمي الناشئ.

تاريخيًا، شكّلت الصين داعمًا سياسيًا ثابتًا للحقوق الفلسطينية، وكانت أول دولة غير عربية تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية، ولا يزال سجلها في الأمم المتحدة شبه مثالي في دعم القضية. غير أن هذا الدعم ظلّ في إطاره السياسي والرمزي، ولم يُترجم إلى نفوذ فعلي على مسار الصراع، لا سيما في ظل العلاقات الاقتصادية العميقة بين الصين وإسرائيل، التي تُدار ببراغماتية عالية.

من هنا، تبرز الحاجة إلى دبلوماسية فلسطينية أكثر استراتيجية تجاه الصين، تنطلق من فهم المصالح الصينية لا من الاكتفاء بالمواقف المبدئية. فاستقرار فلسطين لا يمثل فقط قضية عدالة وشرعية دولية، بل يشكّل مصلحة مباشرة للصين في حماية طرق التجارة، وضمان بيئة آمنة لمشاريعها الاقتصادية، ومنع تحوّل المنطقة إلى بؤرة اضطراب تهدد سلاسل الإمداد العالمية.

ومع تنامي الدور الصيني في الوساطات الإقليمية، كما في التقارب السعودي–الإيراني، تصبح بكين في موقع يسمح لها بلعب دور أكثر فاعلية في القضية الفلسطينية، ضمن إطار تحالف دولي للوساطة والتنمية والسلام. لا يعني ذلك أن تحل الصين محل الولايات المتحدة، بل أن تقود مقاربة أكثر توازنًا، تستخدم فيها أدوات النفوذ الاقتصادي لخلق حوافز سياسية حقيقية، بدل الاكتفاء بإدارة الصراع.

إن الشرق الأوسط اليوم يُعاد تشكيله بالمعابر لا بالحدود، وبالاستثمارات لا بالجيوش. وفي هذا الواقع المتحوّل، تمتلك فلسطين فرصة لإعادة تعريف حضورها الدولي، عبر دبلوماسية ذكية تجاه الصين، تخرج من موقع ردّ الفعل إلى موقع الشراكة، وتربط الحق الوطني الفلسطيني بمصالح الاستقرار والتنمية في النظام العالمي الجديد.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.



إقرأ المزيد