وكالة سوا الاخبارية - 12/29/2025 8:44:26 AM - GMT (+2 )
غزّة ليست صورة عابرة في “ترند”، ولا سيخ شاورما مشتعل في شارعٍ نجا مصادفة من القصف.
غزّة جرحٌ مفتوح، ومدينةٌ أُنهكت حتى العظم، ثم أُجبرت أن تتنفّس من بين الركام.
بعد عامين من التجويع الممنهج، لم يكن الجوع حالة عابرة، بل سياسة كاملة الأركان. جوع قاد الناس إلى أكل الحشائش، إلى طحن علف الحيوانات، إلى اختراع وصفات للبقاء لا للشبع. كان الجسد يُختبر في أقسى معادلاته: كيف تبقى حيّاً ينما يُحاصر أكياس الدقيق فلا يمُر للجوعى الموجوعين، ويُقصف مطبخك وبيتكَ الآمن، ويُسرق منك الغد والأمس بكل ذكرياته؟
غزّة، التي دُمّرت ببيوتها، بتاريخها، ببناها التحتية، تحوّلت إلى شبح مدينة، مبانٍ منكسرة كأضلاعٍ هرمة، وشوارع محفّرة عادت إلى الرمل، كأن الإسفلت نفسه قرر الانسحاب. مياه عادمة تجري في الأزقة بلا خجل، قمامة تتراكم كدليلٍ صامت على انكسار النظام والحياة معاً. خيامٌ تزحف على الأرصفة، وتستقر على الشاطئ، كأن البحر آخر ما تبقّى من اتساع.
ثم، في هدنةٍ ضبابية، دخلت اللحوم المجمّدة، وعادت الشاورما.
كأن على الغزيّ أن يعتذر لأنه أكل!
كأن عليه أن يبقى جائعاً ليكون صادقاً، أو أن يموت ليُرضي الصورة النمطية.
نعم، غزة مدمّرة… ومع ذلك، لأهلها الحق أن يأكلوا بعد المجاعة، الأمران لا يتناقضان.
الغزيّ لا يُزيّن واقعه الكارثي، ولا ينكر خراب مدينته، لكنه أيضاً لا يقدّس الألم، هو لا يأكل الشاورما احتفالاً، بل استرداداً لحقٍ مسلوب: حق الحياة.
يأكل لأنه ما زال هنا، لأن الجوع لم ينتصر، لأن الموت فشل مرة أخرى.
لكن السؤال الحقيقي كان يجب أن يكون: كيف لا يأكلون بعد المجاعة؟
الشاورما هنا ليست احتفالاً كما ينشرها البعض على مواقع التواصل الاجتماعي، بل ردّ فعل طبيعية للحرمان الشديد، ليست زينة واقع مزري، بل محاولة يائسة لاستعادة معنى بسيط اسمه “طعام شهي”. الغزي لا يأكل لأنه نسي الوجع وأهوال الإبادة الوحشية، بل لأنه يتذكّر جيداً؛ يتذكّر الجوع الذي دفعه لأكل الحشائش وطعام الحيوانات، فاندفع نحو اللحم لا كترف، بل كحق مؤجَّل.
نعم، غزّة مدمّرة، ولا أحد يملك حق إنكار ذلك.
ونعم، من حق أهلها أن يأكلوا، ليس في الأمر تناقض.
غزّة لا تتعافى، لكنها ترفض أن تموت.
هذا هو الغزي: يقاوم بالحياة كما قاوم بالصبر.
يتشبّث بلذّة صغيرة، بطعمٍ دافئ، ليقول للعالم: ما زلت هنا، رغم كل شيء.
لكن الخطر كل الخطر، أن نجمّل الصورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بشكل فض وغير مقبول. أن نختصر غزّة في سيخ شاورما، وننسى أن 77% من أهلها ما زالوا في انعدام أمن غذائي، وأن 80% من أطفالها يواجهون جوعاً وُصف بالكارثي. نعم أُعلن “نهاية المجاعة” بينما الجوع ما زال واقفاً على الأبواب، والنزوح مستمر، واليد قصيرة، والحيلة أقل.
غزّة ليست بخير.
وغزّة تستحق الحياة.
بين الجملتين مسافة وجع كاملة، يجب ألّا تُمحى.
لا تستكثروا على الغزي لقمة بعد جوع،
ولا تزيّنوا الخراب بصور “الترند”.
دعوا الحقيقة كما هي: قاسية، واضحة، إنسانية.
غزّة ليست أسياخ شاورما.
غزّة مدينةٌ تنهض من بين الركام، لا لتحتفل، بل لتبحث عن خيط أمل.
عن حياةٍ تُشبهها: صعبة، صلبة، ومُحبّة للحياة حدّ العناد.
المصدر : وكالة سواجميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية
إقرأ المزيد


